س:
سماحة السيد.. ننتقل إلى محور آخر وهو (الحداثة)، هل
تتصورون ان نشأة مصطلح الحداثة هو في مقابل التراث؟ وهل
يمكن اعتبار الحداثة هي المعاصرة وان التراث هو الاصالة؟
وهل يمكن الإدعاء بان التخلف عن ركب الحداثة. يفضي بنا إلى
الوقوع في دائرة التراث؟
ج: استخدام
مصطلح الحداثة يختلف في المقصود منه عند الناس فالبعض
يستخدم كلمة (الحداثة) ويقصد بها كل ماهو جديد. بينما
البعض الاخر يستخدمها بمعنى هدم ما هو قائم.
 |
نحن بحاجة إلى
الحداثة، لكن على قواعد ثابتة، بحيث تكون منطلقاتنا محددة، ونحافظ
على أصالتنا، في نفس الوقت الذي نتحرك، ونتغير. |
 |
السيد المدرسي |
|
فمثلا
الحداثة في الشعر، تستخدم احيانا بمعنى التحرر من الوزن
والقافية وما شابه ذلك، في الوقت الذي يستخدمها آخرون
بمعنى (التحديث) فإذا كان المقصود من الحداثة، (التجديد)
والتغيير، فلا أجد تناقضا بين الحداثة والتراث، لان التراث
يدعو إلى التحديث، فمن سنن الله عزوجل سنة (التغيير
المستمر) في الكون، فربنا (كل يوم هو في شأن) والكون في
حالة تجدد. ونحن نعيش كل يوم يوما جديدا في حياتنا. كما
تتبدل الفصول، ويتحول الإنسان من طفل إلى شاب ثم إلى كهل..
وهكذا فان بعض التغيير إجباري بينما بعضه الاخر متروك لنا،
وعلى كل حال فان التراث لا يتناقض مع التحديث. نعم، هنالك
من يتجمد سواءا على أساليب حديثة أو على أساليب قديمة.
هؤلاء مصابون بالجمود، فمن ينظر إلى الحداثة بإعتبار (عدم
وجود ثوابت) في الحياة فهو -في الحقيقة –مثل شخص يبحر
بقاربه في البحر ولكن من غير بوصلة يسترشد بها. ومن غير
هدف يقصد الوصول إليه، فهو قبل ان يبحر، لا يحدد نقاط
الوصول ولأنه لا يمتلك بوصلة فهو يتجه يمينا حينا وشمالا
حينا آخر. فهو مثل ريشة في مهب الرياح العاتية يتجه إلى لا
هدف ويسير في غير إتجاه، فالحداثة بهذا المعنى ليست سوى
تخرصات خاطئة اما الحداثة بمعنى ضرورة التحديث فهو ضروري
لان كلا من الاصالة والتحديث هما جناحان للإنسان لابد
منهما لكي يستطيع ان يحلق في آفاق جديدة.
تماما كما نجد ان
القطار لا يتحرك الا بأمرين: ان تكون هناك سكة ثابتة
وعربات متحركة. وإذا أردنا ان تكون السكك متحركة كماهو شأن
العربات، فان القطار غير قادر على ان يتحرك تماما. كما ان
من يريد العربات جامدة فان القطار لن يكون قادرا على ان
يحملنا إلى مكان. الا ترى ان الصاروخ حينما ينطلق. لابد ان
يمتلك قاعدة صلبة ثابتة. والا فلن ينطلق، وهكذا فانه عندما
يريد الناس الإنطلاق فلابد من وجود قواعد ثابتة ينطلقون
منها إلى آفاق مستقبلية. ولذلك فاننا لانجد حضارة تقدمت من
دون وجود عادات وتقاليد ثابتة لدى أصحابها، الا تجد كيف ان
الدستور الامريكي يعتبر عند الامريكيين من المقدسات بالرغم
مما عندهم من التحديث، أي ان قوانينهم ثابتة واصولهم غير
متحركة. ولو ان الرئيس الامريكي خالف الدستور، فانه يحاكم
ولايقول أحد هناك: ليكن لنا كل يوم دستور جديد، فحتى تلك
البلاد التي لا تعتبر بالنسبة لنا قدوة حسنة، لكن عندهم
قواعد ثابتة ينطلقون منها.
 |
ظاهرة انتقالفمن
ينظر إلى الحداثة بإعتبار (عدم وجود ثوابت) في الحياة فهو
–
في الحقيقة
–
مثل شخص يبحر بقاربه في البحر ولكن من غير بوصلة يسترشد
بها. ومن غير هدف يقصد الوصول إليه، فهو قبل ان يبحر،
لا يحدد نقاط الوصول ولأنه لا يمتلك بوصلة فهو يتجه يمينا حينا
وشمالا حينا آخر. |
 |
السيد المدرسي |
|
وإذا أخذنا
التحديث في جانب الأدب، فان الذين ينادون بالتغيير
المستمر، هؤلاء يخطئون، ولذلك فان الزمن يتجاوزهم فهم مثل
تلك النباتات التي لا تنتهي إلى نتيجة معينة فإذا كان هناك
نبات تعرف انه سيصبح شجرة برتقال أو شجرة تفاح أو شجرة
الموز. فان هنالك نباتات تنمو وكل يوم ولكنها لا تنتهي إلى
شكل معين. ان كل أمة تريد النجاح فلابد ان تحدد أهدافها
ونقاط الوصول قبل ان تبحر بسفينتها. ولو اننا أخطأنا في
القواعد الثابتة أو في الأهداف المحددة، فإننا لا نصل إلى
مكان محدد. ولن نتنهي إلى نتائج مطلوبة. فمن هنا أقول، نحن
بحاجة إلى الحداثة لكن على قواعد ثابتة، بحيث تكون
منطلقاتنا محددة، ونحافظ على أصالتنا، في نفس الوقت الذي
نتحرك، ونتغير.
س: يروج الغربيون ان الحداثة مشروع المستقبل وعلى جميع
الأصعدة ولابد للجميع ان ينضووا داخله، في الوقت الذي يرى
جملة من الإسلاميين ان الحداثة مشروع لم يكتمل بعد، فلا
يمكن الجزم في الحديث حوله،ماهو رأيكم في هذا المجال؟
ج: كما
لايمكن إستيراد الحضارة من الاخرين، كذلك لايمكن إستيراد
الحداثة منهم فلكل أمة قواعدها وأصولها ويخطيء من يرى ان
منطلقنا لتأسيس الحضارة لابد ان تكون الحداثة الموجودة في
الغرب. ان الغرب حل كثيرا من مشاكله في الجانب الإقتصادي،
والإستقلال السياسي، والجانب العسكري وينطلق في آفاق أخرى.
بينما نحن لانزال نعاني من التخلف في كل تلك المجالات،
مثالنا في ذلك مثال رجل يملك من المال يشتري به دارا يمتلك
سيارة وعنده المتجر الذي يعمل به فهو يهتم بديكور بيته،
ولكن ذلك الفقير الذي لايزال يعيش في الكوخ هل من الصحيح
ان يستورد الديكور الموجود في قصر ذلك الثري؟ ولو افترضنا
انه استطاع ان يفعل ذلك فهو لن يستطيع ان يحول كوخه إلى
قصر. فانت بحاجة لان يكون لك اولا قصر لكي تهتم بديكوره،
ولكن حينما لا تملك الا الكوخ فكيف يمكنك الإهتمام
بالديكور؟ ان دعاة الحداثة من نوع من يريد استيراد الديكور
قبل ان يبني لنفسه القصر.
 |
كما لايمكن
إستيراد الحضارة من الاخرين، كذلك لايمكن إستيراد الحداثة منهم
فلكل أمة قواعدها وأصولها ويخطيء من يرى ان منطلقنا لتأسيس
الحضارة لابد ان تكون الحداثة الموجودة في الغرب. |
 |
السيد المدرسي |
|
ولو اننا
بدل الاهتمام بمثل هذه الحداثة قمنا بتأسيس المعامل ومراكز
التحقيق والجامعات والجوامع وقمنا بتربية الجيل الواعي،
النشيط، الهادف بعيدا عن كل هذه المظاهر، فنحن نكون قد
إنطلقنا إنطلاقة سليمة، بينما لو ان احدنا قلد الغربيين في
ما يرتبط بملابسهم، وأساليب الرقص والغناء وغير ذلك عندهم
فلن نصل إلى مكان فهذا النوع من الحداثة هو مثل شخص عنده
مبلغ من المال يستطيع به ان يؤسس معملا لصناعة السيارات
ولكنه بدل ذلك يستورد السيارات. وهو بذلك يقوي اقتصاد
الآخرين، ويبقى محتاجا اليهم، وكذلك فان من يملك من المال
ما يستطيع ان يستغله في الزراعة ويصبح بذلك مكتفيا من
الناحية الزراعية ولكنه بدل ذلك يستورد الفواكه من دول
أخرى فانه بدل ان يتقدم يتأخر، وكما في صناعة السيارات
والزراعة كذلك في الثقافة والفكر: من يستورد من الآخرين
يزداد ضعفا ومن هنا فاننا نرفض الجانب الديكوري في الحداثة
ولا نرى انه يحل أية مشكلة من مشاكلنا.
انه من
الترف ان نبحث عن التغيير للتغيير. وهذا مافهمه الناس
عندما تجاوزوا دعاة الحداثة، لانهم (أي دعاة الحداثة)
استوردوا مشاكل لم تكن مشاكلنا. واستخدموا مصطلحات لم تكن
مصطلحاتنا واستوردوا أبطالا وأساطير لم تكن ترتبط
بتاريخنا، فوجدوهم الناس غرباء عنهم، فتجاوزوهم.
ان حداثة لم تكمل اصالتنا هي كشجرة مقطوعة
من جذورها لايزيدها الزمن الا خرابا.
|